0 ايام
مضت منذ ان غادرت
سوسن غزال باحثة عن لجوء لها و لعائلتها
الهروب من سوريا
الاختيار المؤلم لأم سورية
من ليوسدال، السويد – استيقظت سوسن غزال ذات يوم بشقتها الصغيرة باسطنبول، قبلت اولادها الثلاث بينما نائمين. لم تشأ ان توقظهم، فقد تؤدى رؤيتهم مستيقظين الى اضعافها و احباط عزيمتها في فعل ما كانت على وشك الاقدام عليه. ودعت زوجها و خرجت الى الشارع البارد المظلم تحت مظلة المأذنة الكبيرة للمسجد المتاخم للمنزل.
غزال، صاحبة ال44 عاما، لا تتذكر يوما قبل ذلك اضطرت فيه ان تفترق عن اولادها. السيدة ذات الصوت السائغ دائما ما وجدت الطرق المناسبة لحمايتهم، سواء كانت حماية من قنابل الحرب الاهلية او من اضطراباتهم الجينية. هى لم تقضى الكثير من الوقت بصحبة والديها اللذان تطلقا منذ ان كانت فتاة صغيرة. حينما كبرت و تزوجت، قطعت وعدا مع نفسها بان لا تترك اولادها ليعانوا من الوحده التى عانت منها اثناء طفولتها.
فى فبراير 2014، كانت سوسن على كامل الاقتناع ان الطريق الوحيد لانقاذ اولادها هو ان تتركهم لتعبر الى القارة الاوروبية بصحبة رجل لا تعرف عنه حتى اسمه الحقيقى. لقد تم تجهيز جواز سفر مزور بشخصية مزورة ستنتحلها حتى الوصول الى المقصد المراد. لقد حفظت دورها الذى ستلعبه بعناية فائقة: ممرضة تركية ممن يتحدثون الانجليزية بطلاقة فى طريقها لقضاء اجازة، عوضا عن امراة عربية سورية هاربة من اتون الحرب الاهلية.
::
قضت سوسن عمرها السابق بحلب، حيث عملت هى و زوجها كخياطين بمركز سوريا التجارى النابض بالحياة. دائما ما عاشت فخورة بتاريخ و تراث مدينتها الذى يرجع و يمتد من الرومان و البيظنطيين الى المغول و العثمانيين و ما تبعهم من حضارات. تتذكر حينما كانت طفله تسير بصحبة جدتها فى شوارع المدينة القديمة مكتشفين متاهات البازارات القديمة و طاولات البيع ذات البلح و البهارات و الذهب.
اعتادت سوسن بعد ذلك ان تبتاع اقمشة حياكتها من نفس الاسواق بصحبة زوجها، اوروا العراج، كذلك اعتادت ان تقتاد اولادها عبد الرحمن و بناتها جود و سيدرا عبر نفس الطرق الضيقة باسواق حلب.
لقد اعتادت عائلة سوسن على قضاء اجازاتهم بشواطئ المتوسط باللاذقية، و تعودوا على ترحيب حلب بعودتهم من كل رحلة برائحة الارض و الشجر و الورود.
كانت سوريا دولة بوليسية تحت حكم عائلة الاسد، الا انه كان هناك مكانا لمن لا يهتمون بالسياسة من الاغلبية السنية ان يحيوا حياة كريمة. معدلات الجريمة كانت منخفضة و تعاقب بحزم اذا وجدت. لطالما شعرت سوسن بالامان قبل اندلاع الحرب الاهلية.
كذلك كان هناك الرعاية الصحية اللازمة لولديها عبد السلام و جود، اللذان عانا من اجساد هزيلة بسبب مرض الثلاسيميا الوراثى مما اقتضى احتياج الابناء لنقل دم كل اسبوعين منذ طفولتهم و حتى الان، و هو الاجراء الذى يستغرق ما لا يقل عن اربع ساعات فى كل مرة.
لطالما قالت لاولادها ان مرضهم هذا لا يعبر عنهم. قد تكون اجسادهم نحيفة الا ان عقولهم قوية و قادرة. لطالما حاولت ان تحميهم عن طريق تفسير العديد من الامور بشكل يوفر لهم الامل الا انها لم تستطع فعل ذلك حين اخبرها الاطباء ان الاولاد قد اصابهم التهاب الكبد نتيجة نقل دم فاسد. كان الاولاد قد كبروا بما فيه الكفاية لادراك ان هذا الالتهاب قد يؤدى الى وفاتهم فى يوم من الايام، و ان اى فرص كانت لديهم فى الشفاء من الثلاسيميا عن طريق زرع النخاع العظمى قد اصبحت اكثر خطورة.
لم ترد العائلة مغادرة سوريا فى بدء الامر. لقد تعلقوا بكل امل ممكن حتى حينما كانت البلد تتحطم من حولهم. لقد ظنت سوسن و زوجها ان المظاهرات المناهضة لحكم النظام، و التى بدأت فى ،2011 ستنتهى سريعا. لقد ظنوا انه من الممكن الانتظار حتى انتهاء الفوضى على الرغم من قدوم القتال الى قلب حلب.
ظنوا ان الامور ستكون على ما يرام حتى بعد ان اعتادوا رؤية الطائرات المقاتلة تحوم فوق رؤوسهم. فى يوم ما اتصلت سيدرا بامها باكية من المدرسة حين قام بعض المقاتلين بكتابة تهديدات على حوائط المبنى: اذا ارسلتوا اولادكم الى المدرسة فسنقتلهم و لن نعيد اليكم سوى حقائبهم.
ظنوا ان الامور ستكوت على ما يرام حتى حينما اعتادوا ترك النوافذ مفتوحة حتى لا تتحطم فى تلك الايام التى شعروا فيها بالقصف يحرك سجاد شقتهم. لقد استطاع الاطفال ان يناموا خلال تلك الايام بطريقة ما، كانت سوسن و زوجها يحملوهم الى وسط الشقة بعيدا عن النوافذ. قالوا لاولادهم انه اذا جاء الموت فمن الافضل ان يموتوا بقرب بعضهم البعض.
ببداية 2012 ادى الشح فى امدادات القطن و الحرير و الشيفون الى اغلاق متجر الحياكة الخاص بالعائلة، فاستأجروا متجر اخر قاموا فيه ببيع الاحذية لفترة وجيزة. الا ان الحصول على الدم اللازم لتغذية اجساد الاولاد اصبح اكثر صعوبة، فالجنود المتقاتلين يحتاجونه. ناشدت سوسن جميع معارفها من اجل التبرع بالدم من اجل اولادها.
كلما انقطعت الكهرباء عن المشفى نتيجة القصف، اضطرت سوسن لجلب اكياس الدم لتحقنها بنفسها فى جسد الاولاد.
::
كان عبد السلام لامعا و لديه فضول الولد الطموح. كان اجتماعيا و احبه كل من رأاه. علم نفسه الانجليزية عن طريق مشاهدة الافلام الامريكية. كان لديه وجه النجوم السينمائية. الثلاسيميا اوقفت نموه الطبيعى فبدى كالولد الصغير حينما كان مراهقا. كانت سوسن فى متجر الاحذية حين سالها احد المارة عن اذا ما سمعت عن القصف الذى لحق بجامعة حلب فى اول يوم من ايام الامتحانات. كان عبد السلام يدرس الجيولوجية فى سنته الاولى بتلك الجامعة القابعة فى منطقة تحت سيطرة قوات النظام.
حاولت ان تكلمه و هى فى حالة من الجنون لتطمئن عليه، الا انه لم يرد. مرت ساعة ثم الاخرى ثم الساعة الثالثة حتى ظنت سوسن انها قد تموت بينما تنتظر اى اخبار عن ابنها. فى النهاية هاتفها عبد السلام قائلا "امى، انا بخير" و لكنه لم يكن على ما يرام، لقد كان بالقرب من موقع الانفجار الذى دمر قسم الهندسة المعمارية بالجامعة.
تم تدمير واجهة المبنى بالكامل. تصاعد الدخان من كل السيارات المجاورة. انتشر الزجاج المهشم فى كل ناحية بجانب اشلاء الجثث و المصابين. مات ما لا يقل عن 80 شخصا منهم من كانوا اصدقاء لعبد السلام. قال شهود عيان ان الطائرة التى قصفت الجامعة كانت تابعة للنظام مما اثار الكثير من الريبة: فلماذا يقصف النظام جامعة بمحيط سيطرته. هل كان يستهدف الثوار المتواجدين ليس بالبعيد عن مقر الجامعة؟ هل استهدف الجامعة كونها موقع للعديد من المظاهرات المناهضة للنظام؟ كل جانب القى باللوم على الاخر و لم يعلن احد مسئوليته عن الحادث حتى الان.
كان ذلك اليوم الذى قررت فيه سوسن بانه يجب عليهم الفرار. "قلت لا يمكننى البقاء هنا بعد الان. قد افقد اولادى اذا بقيت لأكثر من ذلك".
::
لاحظت سوسن تغير عبد السلام خلال الايام الثلاثة الاولى التى اعقبت قصف الجامعة. لقد صار منطويا على نفسه و رفض التحدث عن ما رأى، كذلك رفض العودة الى الدراسة.
فى ابريل 2013، العام الثالث من الحرب الاهلية السورية، تركت العائلة سوريا الى لبنان. لقد كانوا اوفر حظا من العديد من النازحين السوريين الذين انتهى بهم المطاف بمخيمات اللاجئين. قاموا ببيع سيارتهم و بعض الحلى الذهبية مما وفر المال اللازم لاستئجار السائق الذى وصل بهم الى بيروت و منها استقلوا طائرة الى اسطنبول.
اعطتهم السلطات التركية وثائق للهوية بختم يمنعهم من العمل، و وجدوا شقة صغيرة باحد احياء الجانب الاوروبى من العاصمة. وجدت سوسن و زوجها اوروا عملا كعمال بالسوق السوداء فى احد المصانع. رواتبهم كانت زهيدة لكن كافية لدفع ايجار السكن و اطعام العائلة و دفع تكاليف نقل الدم المطلوب للولدين. لكن سرعان ما اتضحت الرؤية بان هذا الوضع لا يمكن ابقائه لفترة طويلة فقد عانى اوروا من مشاكل مزمنة فى الظهر جراء الانحناء الدائم للعمل على ماكينات الحياكة: المصانع التركية تريد عمالا اصغر سنا و اكثر تحملا.
اوروا يحمل مكانة عظيمة فى قلب سوسن، دائما ما احبت فيه موهبته فى تصميم الازياء و حياكتها و سعيه الدائم لكسب الرزق دون تعب. "انه رجل مذهل" هكذا توصفه سوسن، متذكرة تفضيلها له على العديد من الشباب الذين ارادوا خطبتها حينما كانت يافعة. "معظمهم ارادنى ان اتخلى عن طموحى فى العمل و ارادونى ان اكون ربة بيت، بينما اوروا احترم استقلاليتى".
لقد نشا اوروا بعائلة فقيرة و اضطر للعمل بدوامين يوميا لسنوات طويلة حتى تمكن من فتح مشروعه الخاص، و لكنه الان ترك كل هذا خلفه. يقول عبد السلام ان "كل ما بناه والده ذهب" مستكملا بان مستقبل اباه الوحيد الان هو ان يرى ابنائه يعيشوا حياة طبيعية.
لقد حاول عبد السلام العمل باسطنبول من اجل مساعدة العائلة. وجد وظائف كنادل و لكن تم صرفه لانه احتاج ان يجلس ليستريح اثناء العمل. عمل فى بعض مصانع الملابس الا ان ذراعيه الضعيفين لم يتحملا و دائما ما اوقع ما توجب عليه نقله من مكان لاخر.
لم يجد اى فرصة للعمل المكتبى الذى تطلب اجادة الانجليزية و التركية اجادة تامة. "كلما قلت لاحد المستخدمين اننى سورى رفضوا توظيفى. انهم يفضلوا ان يتحاشوا اية مشاكل مع الاتراك الاخرين الذين يعتقدوا اننا جئنا لنسرق وظائفهم" هكذا يقول عبد السلام.
بينما ظل اختيه على اتصال مع بعض اصدقائهن بسوريا عن طريق مواقع التواصل الاجتماعى، قرر عبد السلام قطع كل صلة له بوطنه الام بعد ان ظل يسمع عن اخبار مقتل العديد من اصدقائه. هو ببساطة لم يشأ ان يعلم المزيد.
حينما يغلق عينيه محاولا تذكر حياته السابقة بحلب، فهو يحاول الا يتذكر الكثير. "انه كجدار الحماية. اذا فكرت كثيرا بالامر فلربما افتقد سوريا و انا لا اريد هذا. لا اريد النظر الى الخلف حتى اتمكن من المضى قدما الى الامام. لقد اعطيت ظهرى لكل من كنت اعرفهم. اعتقد انه اكثر الاعمال التى قمت بها سوء: محاولة حماية نفسى بهذه الطريقة" تلك هى نظرية عبد السلام عن الامر برمته.
تركيا اظهرت بعض الكرم لعائلة سوسن، فبعد عدة محاولات وافقت الحكومة على تحمل نفقات نقل الدم الدورى لعبد السلام و جود مما يبقيهم على قيد الحياة و ان كانوا لازالوا غير متلقين لاى علاج للالتهاب الكبدى.
اخو سوسن غير الشقيق كان قد سافر الى السويد. من بين كل الدول التى قد يحاولوا الانتقال اليها بدت السويد و كأنها المكان المناسب: حكومة مستقرة، غابات شمالية شاسعة، حقوق انسان. هكذا كانت الصورة، فعلى الاقل السويد تمنح السوريين احقية اللجوء و تدفع الاموال نظير تعليمهم اللغة السويدية.
تمكنت العائلة من اقتراض 10000 دولار امريكى ثمن الرحلة و لكن كان من الصعب ارسال سيدرا ذات الاربعة عشر عاما وحدها. جود، 18 سنة و عبد السلام ذو العشرون عاما، كلاهما يعانى من المرض مما قد يصعب مهمة سفر اى منهما، مما ترك الاختيار بين اوروا او سوسن.
عادة يذهب الرجل فى مثل هذه المهمات الا ان الام ظهره قد تؤخره. كما ان السلطات مفتوحة العينين على الرجال السوريين ممن يحاولوا العبور الى اوروبا باستخدام جوازات سفر مزورة. سوسن لن تثير الكثير من الريبة كما انها تتحدث الانجليزية بطلاقة افضل من زوجها لذلك وقع الاختيار عليها لكى تقوم بهذه الرحلة الى اوروبا.
"يجب ان اكون سيدة قوية" تقول سوسن، "يجب ان اكون القوية (من بين افراد العائلة)".
و هكذا تركت سوسن اسطنبول فى تلك الصبيحة الباردة بفبراير 2014. لقد جلست مختبئة فى مؤخرة شاحنة حيث وجدت عددا اخر من الرجال السوريين فى طريقهم من اسطنبول الى اثينا بصحبة مهربهم الذى لا يعلمون عنه شيئا سوى ان اسمه محمد. سوسن كانت تعلم ان هذا الاسم لا يمت للحقيقة بصلة، تماما كاسم الممرضة التركية الذى وضع على جواز السفر المزور الخاص بها.
كان لزاما على سوسن ان تلعب دور ممرضة تركية ذاهبة الى السويد فى رحلة تزلج. كان يجب عليها التحدث بالانجليزية فقط طوال رحلة الطائرة من اثينا الى كوبنهاجن حتى لا يتم فضح هويتها الحقيقية. صاحب المهرب سوسن طوال الرحلة مع الحرص على ان لا يروا بجانب احدهما الاخر لاى سبب كان. وصلوا الى كوبنهاجن ثم قام المهرب بايصالها بسيارة الى مدينة مالمو السويدية قبل ان يتركها و يعود وحده الى تركيا.
انتقلت سوسن لتقيم مع اخوها غير الشقيق فى ليوسدال و هى بلدة ريفية صغيرة بوسط السويد و تبعد عدة ساعات عن العاصمة ستوكهولم.
كان الليل يخيم على الاجواء ليلة وصول سوسن الى ليوسدا. ثلوج تغطى الحقول المفتوحة و قناديل تتدلى من نوافذ المنازل ذات الطوابق الواحدة. المنظر بشكل عام كان مرحبا بالنسبة لها. البلدة بدت و كأنها مشهد من مشاهد كروت المعايدى السويدية: مدينة مرتبة و هادئة مليئة بالغابات، تحتوى على صالة مسرح واحد تغلق طوال الصيف.
كانت الحكومة السويدية قد بدأت فى نشر اللاجئين الى البلدات الاقل تعدادا بالسكان بعد ان غمروا المدن الكبيرة. تم ارسال العديد الى مخيمات كمبانى سكن الطلاب و منشات سكنية و فنادق مهجورة. البعض ارسل الى مناطق تصل فى بعدها الى الدائرة القطبية الشمالية. فى احدى الحوادث المعروفة اعلاميا، رفض اللاجئون النزول من الحافلة التى كانت تقلهم بسبب بعد و برودة الموقع النائى الذى تم ارسالهم اليه.
سوسن وجدت الكثير مما احبته بليوسدال. هناك اماكن التنزة وسط اشجار الصنوبر، هناك المكتبة العامة برفوف خاصة تحوى كتب عربية و حجرة خاصة للجغرافيا قضت فيها ساعات تدرس الاطلس السويدى. تعلمت سوسن الكثير على المستوى الاجتماعى، فالوضع يختلف عن الشرق الاوسط حيث تتواجد العائلات الكبيرة المتماسكة و الصداقات التى يمكن تكوينها سريعا. السويديون طيبين و مؤدبين الا انهم كتومين و من الصعب خلق صداقات معهم فى وقت قصير.
كانت سوسن واحدة من بين 30.583 سوريا قدموا طلبات لجوء لدى السويد فى 2014. فحصت الحكومة بعض الحالات الفردية اسرع من غيرها بالرغم من اعداد الطلبات الكبيرة. بحلول الصيف كانت سوسن تسكن بشقة خاصة بها بعد ان حصلت على تصريح اقامة مما مكنها من بدء اجراءات لم الشمل العائلى.
ابنها عبد السلام و والده لديهم فرصة قوية فى الحصول على اللجوء طبقا لقوانين هيئة الهجرة السويدية. لكن عبد السلام و جود كلاهما تخطى ال18 عاما و الهيئة تسمح بقدوم افراد العائلة فوق ال18 فى حالات خاصة طبقا لنفس القوانين.
مضت الشهور دون تقدم و قالت سوسن لنفسها انه لا داعى للذعر. و لكن كيف لا تشعر بالقلق و خاصة ان الاخبار القادمة من عائلتها فى اسطنبول تزيدها قلقا؟
فى احد الايام، استيقظ زوجها ليجد ان بعض اللصوص تسلقوا عبر النوافذ الى شقتهم ليسرقوا بعض الهواتف المحمولة بالاضافة الى ما تبقى من الاموال التى كانت بحوذتهم. كان هناك القليل مما يمكن او ترغب الشرطة التركية فى فعله حيال الامر، مما جعل سوسن تفكر فى ماذا كان سيحدث اذا ما استيقظ ابنائها اثناء وجود اللصوص: لربما قتلوا اولادها. الوضع جعلها تشعر بانعدام الامان بالنسبة لعائلتها بتركيا.
حادثة مفزعة اخرى تعرضت لها عائلة سوسن باسطنبول حينما دخل عليهم الشقة رجلين يتكلمان بلكنة حلبية و قالوا لهم ان لديهم اوامر بقتل عبد السلام و انهم سيعفوا عنه اذا ما دفع لهم والده 10000 دولار امريكى. مرة اخرى لم تكن الشرطة التركية متواجدة لاية مساعدة.
لم يعرفوا بالضبط دوافع هؤلاء الرجال: ربما هناك من قال لهم ان عائلة سوسن لازالت تملك بعض المال و يمكن ابتزازهم من اجله. المهاجمين كانوا سوريين ممن يعيشون باسطنبول.
يحتفظ الاولاد بصور امهم على شاشات هواتفهم بتركيا كما تحتفظ هى بصورهم على شاشة لوحها الالكترونى بالسويد. يقضوا ساعات طويلة متواصلين عبر الانترنت بهذا الشكل. فى بعض الاحيان لا يتكلموا كثيرا بل يشاهدوا الحياة اليومية لكل منهم فى مكانه. سوسن تشاهد عبد السلام و جود بينما ياخذون الادوية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة. كما تشاهد اوروا و هو يصلى فروضه الخمس.
هكذا قضوا عيد ميلاد اوروا الخمسين. هكذا تعلم سوسن بناتها كيف يصنعن محشى الكوسة و غيرها من الاشياء التى لم يتسنى لها تعليمهن بسوريا و تركيا. "احاول جعلهم يشعرون اننى مازلت معهم" تقول سوسن.
دائما ما تتحدث سوسن مع زوجها عن خطط المستقبل حينما تجتمع العائلة مرة اخرى بالسويد. تقول له ان مازال لديه فرصة فى ان يصبح الرجل الذى كان عليه قبل الحرب. سيفتحوا متجرا لاستيراد الملابس من تركيا و حقائب اليد من ايطاليا و سيعود الامر كما كان قبل 2011.
ترسل الحكومة السويدية الى سوسن شيكات شهرية تبلغ حوالى 1.200 دولار امريكى. تدفع هى نصف ذلك المبلغ لايجار شقتها و فواتير المنزل و ترسل ما يتبقى الى عائلتها. تعيش سوسن فى شقة صغيرة بالطابق الثالث لاحد المبانى وسط الغابات. علاقتها بجيرانها لا تتعدى القاء التحية عند الرؤية.
اقرب صديقاتها السويديات تدعى جونهيلد كارلبوم، و هى متقاعدة عن العمل فى سن ال78 عاما. تعرفت سوسن عليها فى مهرجان للرقص الشعبى و من ثم ساعدتها جونهيلد فى شراء بعض الاثاث اللازم لشقتها الصغيرة. "هى شخص لطيف جدا و قد عانت الكثير فى حياتها. لا افهم كيف يمكنها تحمل كل ذلك" هكذا تتحدث جونهيلد عن صديقتها سوسن.
تحتفظ سوسن بنسخة من القران على رف بجانب صور لافراد عائلتها بجزء من الشقة يبدو و كأنه ضريح. لم تتمكن من الصيام طوال نهار ايام شهر رمضان الصيف الماضى نظرا لزيادة عدد ساعات الصيام بصيف السويد الذى يمتد يومه لاكثر من 19 ساعة. كانت ساعات الليل تمر بسرعة دون حتى ان لاحظها.
كالعديد من اللاجئين السوريين بالسويد، تعجز سوسن عن العثور على عمل. لا مانع لديها من امتهان اى عمل الا ان الفرص معدومة. لقد عملت طوال فترات رشدها و الان البقاء طويلا دون وظيفة قد اصبح مرهقا للغاية. تؤدى عملا غير مدفوع لبضعة ساعات اسبوعية فى متجر للروائح كجزء من برنامج الحكومة السويدية المعد لمساعدة الوافدين على التأقلم. تعانى عند قراءة لوائح الطعام السويدية و تقضى وقتا طويلا فى البحث عن الوجبات الخالية من لحم الخنزير.
تداوم على فصول تعلم اللغة السويدية حيث يشاهد الطلبة افلام امريكية مترجمة و برامج تلفزيونية محلية كبرنامج "اهلا بكم فى السويد" الفكاهى، الذى يناقش الطبيعة الخاصة لثقافة السويديين و تعاملهم مع الاجانب. ولكن كيف يمكن لها التركيز فى كل هذا و كل فكرة فى خلدها تدور حول عائلتها التى تفتقدها كثيرا؟
لا احد يعطيها اى معلومات عن الوقت اللازم للموافقة على طلب لم شمل عائلتها فى وقت من المنتظر ان يصل فيه حوالى 74000 لاجئ من سوريا و دول اخرى الى السويد قبل حلول 2016.
تخاف كثيرا على عبد السلام و جود. الى متى ستدوم امدادات نقل الدم المجانية التى يحصلون عليها فى وقت اصبح الجنود الاتراك معرضين للخطر اثناء قتالهم لميليشيات الدولة الاسلامية جنوب البلاد. "لا شئ يشعرنى بالسعادة هنا" هكذا تقول سوسن. انها تشعر و كانها منقسمة، نصفها فى السويد و النصف الاخر مع عائلتها بتركيا.
تحاول قضاء معظم اوقات فراغها على سكايب للتواصل مع عائلتها. تعلمهم ما يمكنها من اللغة السويدية ككيفية قول صباح الخير او كيف حالك. انها دائما ما تذكرهم بانهم سيحتاجوا اللغة عند وصولهم للسويد.
::
لا امل فى العودة الى سوريا. تتصفح صور قديمة لكيف كانت حلب بالماضى: الجامع الكبير الذى تحطمت مأذنته و السوق القديم الذى احترق تماما. المدينة التى ترعرت بها تحطمت بالكامل.
"حتى انا لا يمكننى فهم ما يحدث (بسوريا). ستحتاج سوريا الى جيل كامل من اجل اصلاح ما دمر. لقد اصبحت حياتى مجرد ذكرى احملها معى فى عدد من الصور" تقول سوسن.
تبتاع سوسن احتياجاتها من البن المركز و ورق العنب و الزيتون و عجينة الفلافل من متجر سورى يقبع خلف مدرسة تعلم اللغة السويدية بليوسدال. كان هناك القليل من لسوريين بالبلدة حين وصلت سوسن الا ان العدد فى ازدياد.
احدهم مهاجر اخر من حلب. صيدلى تبدو عليه الحيرة كلما تحدث عن ما الت اليه الاوضاع بسوريا. يحمل مقطع فيديو على هاتفه يظهر قيام بعض الدواعش بقطع رأس رجل بالصحراء لاشتباههم بانه يعمل لصالح النظام. الضحية كان على علاقة صداقة بعائلة المهاجر الصيدلى.
::
تشعر كلا من جود و سيدرا بان شقتهم باسطنبول كالسجن ذو الحوائط العارية. لا يسمح لهن الاب بالخروج وحدهن دون مرافقة كما ان المكان يفتقر لاى مكيف هوائى مما يصعب البقاء بالداخل خلال شهور الصيف شديدة الحرارة.
هن غير ملتحقات بايه مدارس بتركيا فيقضون اوقاتهم فى البيت يلعبن العاب الهواتف ككاندى كراش و احيانا يرسمن رسومات كرتونية.
يشعر الاب و كانه ترك هويته فى سوريا. لقد كان دوما فخور بإعالته لعائلته الا انه لا يمكنه القيام بذلك وسط الظروف الراهنة. انه يشعر و كانه رجل مدمر على حسب قول سوسن.
اوروا يعتقد بأن كل شئ بيد الله. "اى شئ سيحدث فهو قدرنا المكتوب سلفا" هكذا يقول.
لقد اصبح سريع الغضب. يشترى العديد من السجائر رخيصة الثمن و يخزنها بعلب الجالواز التى اعتاد تدخينها حينما كان لديه القدرة المادية على ذلك.
القدر بغرابته اعاد اوروا الى نقطة الصفر. دورة كاملة من شاب فقير الى رجل ميسور الحال الى رجل فقير مرة اخرى، يزيد على ذلك انه اصبح بلا وطن.
يقول اوروا ساخرا ان وظيفته الحالية اصبحت حمل اكياس القمامة الى الخارج. اما عبد السلام فهو يقضى معظم فترات النهار الحار نائما و يقضى ليله فى مشاهدة البرامج التلفزيونية الامريكية على هاتفه بينما يدخن بشراهة.
الا انه عازم على الذهاب الى السويد حتى لو اضطر الى السفر مشيا على قدميه. "قد يأخذ الموضوع الكثير من الوقت، و لكننى سأذهب الى هناك فى نهاية الامر".
يعتقد عبد السلام انه من الافضل عدم التحث بالعربية بصوت عال وسط الناس باسطنبول، فهو يرى ان العديد من الاتراك لا يحبون السوريين مما يعرضه للخطر. يقول انه تعرض سابقا للهجوم باستخدام صاعق كهربائى من بضعة شباب محليين باحد محطات المترو.
هو يقرا كثيرا مقالات متعلقة بعلم النفس ليحاول فهم الدافع الانسانى. بالنسبة له الموضوع مجرد محاولة للبقاء: طريقة لحماية نفسه. لقد قرأ ان رفع المرفق اثناء الحديث يقلل من حدتة الناس تجاه المتحدث، كذلك الابتسامة عند مخاطبة الاخرين. لذلك هو يدرب نفسه على استخدام نلك الاساليب عند الحديث مع الاتراك.
"احاول ان اعطى اشارات ودودة حتى لا يظن الناس اننى عدو. حتى لا اضطر الى قتال احد لاننى ضعيف بدنيا" يقول عبد السلام، مكملا "انا دائما معرض للخطر لاننى سوريا. عضلاتى لا يصلها كم الدماء الكافى لذلك لا يمكننى قتال احد".
يقر عبد السلام ان قرائته لعلم النفس هى وسيلة للتعافى من الاثار النفسية التى تبعت رؤيته لقصف مبنى جامعة حلب. "انطفأ النور الذى كان بداخلى و يجب ان اجد طريقة لاصلاحه مرة اخرى".
::
تعكف سوسن على مراجعة الموقع الالكترونى لهيئة الهجرة السويدية طوال اليوم لترى ما اذا كان هناك جديد فى طلب لم الشمل الخاص بعائلتها. هى تقوم بذلك حينما تصحو من النوم، و وقت الغداء، بعد المدرسة و قبل الخلود الى النوم مرة اخرى و دائما ما يكون الرد بانه لا قرار اتخذ بعد بشان طلبها.
تبعث بخطابات الكترونية الى وكالة اللاجئين بالامم المتحدة معنونة بريدها "انقذوا عائلتى". تحيلها الوكالة الى الصليب الاحمر و الذى يحيلها بدوره الى هيئة الهجرة السويدية مرة اخرى و النتيجة هى الانتظار.
يمتلئ عقلها بالكثير من الافكار و المخاوف بينما تستمر الحرب و تزداد اعداد القتلى لتتخطى ال200.000. تمتلئ النشرات باخبار عن لاجئين سوريين تحللت جثثهم داخل شاحنات او غرقوا بالبحر اثناء محاولة عبورهم الى اوروبا.
فى بعض الاحيان، تفكر سوسن فى ان تذهب بنفسها الى اسطنبول لتجلب عائلتها معها الى السويد باى طريقة ممكنة و بصرف النظر عن ايه مخاطر حتى لو اضطرت لخوض الرحلة غير الشرعية عبر البحر ثم سيرا على الاقدام. "لربما اجد نوع من السلام النفسى اذا مت" هكذا تعبر عن احباطها.
لقد قامت بزيارة العائلة باسطنبول مرتين و فى كل مرة كان الوداع المعتاد اصعب مما سبقه. لكنها الان بالسويد، الدولة التى تحاول ان تبنى فيها مستقبلا لعائلة تصارع من اجل لم شملها. سوسن اصبحت تعانى من اجل اقناع عائلتها بان حلم العيش سويا بالسويد سيكون حقيقة فى يوم من الايام.
تذهب سوسن الى مكتب شئون الهجرة بليوسدال كل اربعاء. تنتظر دورها بينما تنظر الى الحوائط ذات اللوحات التى تمجد الطبيعة الرعوية بالسويد:صور لمزارع كبيرة و قرى صيد الاسماك.
مسئول المكتب الذى يستقبلها اليوم يدعى زلاتكو بوفيسيفيتش، هو ينصت بادب بينما تشرح له انها تنتظر الرد على طلب عائلتها لاكثر من عام الان، يرد عليها متسائلا "ماذا يمكن ان افعل؟"
"يمكنك ارسال بريد الكترونى مرة اخرى، و لكن هناك تدفق كبير فى عدد اللاجئين من الاطفال القصر، لذلك تقوم السلطات باعطاء الاولويات على حسب كل حالة".
::
عبد السلام فقد الامل فى ان ينضم الى امه بالسويد. "بعد سنتين من المحاولات، اشعر و كأننى لن ابرح هذا المكان. انه شعور قاتل".
يتحدث عبد السلام اله والدته عبر سكايب بينما تظهر نبرة اليأس فى صوته. انها تحاول ان تبقيه متفائلا بكل ما اوتيت من قوة: "سوف اكسب هذه المعركة. لا تقلل من قدر ما يمكن لأم ان نفعله" هكذا ترد سوسن على ابنها لشحذ همته.
يعتقد عبد السلام انه اذا كانت حكومة السويد ستوافق على طلب لم شمل عائلته لكانت قد وافقت منذ وقت مضى. "لا اعتقد ان هذا الطلب سينتهى باى رد ايجابى لنا" هذا ما يقوله لوالدته عبر سكايب قبل ان يغلق سكايب.
تقول له سوسن مع السلامة باللغة السويدية "هيى دا"، يرد عليها "هيى دا". تغطى سوسن وجهها بينما تنهمر دموعها. الامل الوحيد المتبقى لديها هو فى تلك البلد صاحبة اللغة التى ودعها بها عبد السلام.
مساهمات اضافية: مدير التصميم الرقمي: ستيفاني فارل. انتاج رقمي: ايفن واغستاف.